بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

(المقام الأول)

في معنى اليد. والمقصود منها في المقام : هو الاستيلاء والسلطنة على الشي‌ء بحيث تكون لصاحبها القدرة على أنحاء التصرف فيه. وهو أحد معانيه الحقيقة عرفا ، للتبادر ، بل ولغة ، كما يظهر من تعدادهم ذلك في معانيها الظاهر في الحقيقة ، فعن ابن الأعرابي في (لسان العرب) : «اليد : النعمة ، واليد : القوة ، واليد : القدرة ، واليد : الملك ، واليد : السلطان ، واليد : الطاعة ، واليد : الجماعة ، واليد : الأكل ، وفيه أيضا : «ويد الربح : سلطانها ، قال لبيد : (نطاف أمرها بيد الشمال) لما ملكت الريح تصريف السحاب جعل لها سلطان عليه ، ويقال : هذه الضيعة في يد فلان ، أي في ملكه ، ولا يقال : في يدي فلان» (١) وفي (الصحاح) : «واليد : القوة ، وأيده أي قواه ـ إلى أن قال ـ : «وهذا الشي‌ء في يدي أي في ملكي» (٢) وفي (القاموس) في ـ تعداد معانيها قال ـ : «والقوة والقدرة والسلطان والملك بكسر الميم .. (٣)» انتهى. وهي بهذا المعنى لا تستلزم وقوع التصرف فيه ، بل يكفي في تحققها القدرة عليه فمن حمى أرضا لنفسه استولى عليها ، وان لم يتصرف فيها بزرع أو رعي ونحوهما ، فإنه ذو يد عليها عرفا قبل وقوع التصرف فيها. نعم ، لا يصدق اليد على الشي‌ء بمجرد القدرة على الاستيلاء عليه ، بل لا بد من فعليته في

__________________

(١) راجع ذلك في مادة (يدي) منه

(٢) راجع ذلك في مادة (يدي) منه

(٣) وتتمة العبارة : «والجماعة والأكل والندم والغياث والاستلام والذل والنعمة والإحسان تصطنعه» راجع ذلك في مادة (يدي) منه.

٣٠١

صدقها عليه ، فالقدرة على الاستيلاء غير فعليته الموجبة لتحققها به ، فقد تجتمع مع التصرف ، وقد تنفك عنه ، ولذا تنقسم اليد إلى المجردة عن التصرف ، والمنضمة معه. نعم بالاستيلاء تتحقق مرجعية المستولي للمال ، وإليه يرجع أمر المال في كل ما يتعلق به ، فلا ينفك الاستيلاء عن المرجعية بل هي أثره ومسببة عنه.

ثم اليد على الشي‌ء التي قد عرفت أن معناها الاستيلاء عليه والإحاطة به : (مرة) تكون سببا للملك (وأخرى) مسببة عنه.

فالأول ، كالحيازة للمباح فإنها تحدث ربطا بينه وبين الحائز ربط إضافة واختصاص ، يعبر عنه بالملك ، له طرفان : طرف الإضافة إلى المالك ، وطرف التعلق بالمملوك ، ولا ينتفي الربط الحادث به بكلا طرفيه إلا بفك الملك كالتحرير والاعراض ـ على القول بخروج المعرض عنه عن الملك به.

والثاني ، وهو ما كان مسببا عن أحد النواقل الشرعية ، سواء كانت اختيارية أو قهرية ، كالإرث ، فإن اليد والاستيلاء على المنتقل إليه انما هو بأحد أسبابه الموجبة للنقل اليه ، والنقل حينئذ انما هو تحويل لطرف الإضافة من المنتقل عنه الى المنتقل اليه ، فطرف التعلق ـ والحالة هذه ـ لم ينفك عن كونه متعلقا به ، وان كان بالدقة الفلسفية يرجع إلى إعدام ربط الأول بطرفيه وإحداث ربط جديد بين المال والمنتقل إليه ، فالملك حينئذ مسبب عن العقد دون الاستيلاء ، بل الاستيلاء والسلطنة عليه مسبب عن الملك الحاصل بأحد أسبابه ، غير أن السلطنة المسببة عن أحد أسبابها انما هي السلطنة الاستحقاقية ، وقد تجامع الاستيلاء الفعلي ، فيتحدان في الوجود ، وقد تنفك الاقتضائية عن الفعلية كالعين المغصوبة تحت يد الغاصب.

٣٠٢

هذا وما ذكرنا من انفكاك اليد عن التصرف لا ينافي استكشاف ثبوتها به حيث يقع الشك في تحققها بعد أن كانت فعلية التصرف مسببة عنها ـ غالبا.

وبالجملة : لا شك في صدق اليد لمن يشاهد منه بعض التصرفات المترتبة على الملك كالبيع والإجارة في الأعيان ، واستعمالها كذلك غالبا كالحمل والركوب في الدابة والهدم والتعمير في الدار والزرع والغرس في الأرض وغير ذلك من وجوه الاستعمالات الكاشفة عن اليد والاستيلاء بدلالة الأثر على المؤثر. والمرجع فيما شك في صدق اليد به إنما هو العرف.

والظاهر صدق اليد على الدار لمن أغلق بابها ومفتاحها بيده ، كما تصدق اليد على الدابة إذا كان بيده زمامها. وفي صدق اليد على الدار بمجرد كون مفتاحها بيده ما لم يعلم استناد الأغلاق إليه؟ إشكال. وأشكل منه مع انفتاح الباب ، فهو كمن بيده لجام الدابة غير الملتجمة به وان اختص بها.

وفي صدق اليد على المتاع بوجوده في داره أو على الدار بوجود متاعه فيها ما لم يعلم استناد الوضع إليه أيضا؟ إشكال. اللهم إلا أن يدعى ظهور ذلك في كونه مستندا اليه ، وهو على عهدة مدعيه ـ أولا.

ولو سلم فممنوع بلوغ ظهوره حد الصدق به ـ ثانيا.

وقد تتعارض وجوه التصرف والاستعمال. فان تساويا في مرتبة الاستكشاف في الشدة والضعف تساويا في صدق البد أو عدمه. والا فالصدق لما هو أشد في القوة كالدابة التي عليها حمل أحد وزمامها بيد الآخر ، فهي لآخذ الزمام دون صاحب الحمل ، بل ولو ركبها رجل وقادها الآخر فاليد للقائد. ولو كان لأحد الجارين استطراق في مسلك مخصوص في دار جاره إلى بئر يستقى منها ـ مثلا ـ فهل المسلك مشترك في الملك بينهما

٣٠٣

بناء على صدق اليد لهما عليه ، أو يختص بصاحب الدار ، وانما لجاره حق الاستطراق ـ فقط ـ لمنع اليد على أزيد مما يفيد ملك المنفعة أو الانتفاع ، أو يختص بالسالك بدعوى اختصاص اليد له المستكشف بمشاهدة تصرفه فيه ومنع ثبوت يد لصاحب الدار عليه ما لم يكن مشاركا له في استعماله والتصرف فيه؟ احتمالات : أضعفها الأخير ، ولكل من الأولين وجه ولعل الأخير أوجه. وان لم يكن للسلوك مسلك مخصوص لم يثبت له أزيد من حق الاستطراق قطعا ، لمنع صدق اليد له على شي‌ء من عرصة الدار ، وان تعين عليه ذلك في أقصر الخطوط من المبدء الى المنتهى ، لأنه المتيقن من تعلق حق الانتفاع به وجواز مزاحمة المالك فيه. والتعيين في جزء منها ، ان قلنا به ، فبحكم شرعي لا مدخلية له في صدق اليد عليه عرفا ،

ويد الودعي على الوديعة يد المودّع بعد تنزيله منزلته في حفظها لان معناها الاستنابة في الحفظ ولذا لا يقع الضمان فيها لعدم تعقل ضمان الإنسان لنفسه في ماله ، بل هو كذلك في مطلق الأمين كالوكيل والمستعير ، فاليد فيهما حقيقة للموكل والمعير ، وان كانت العارية بالضمان تخرج عن الايتمان فيد التابع للمتبوع وان ترتب عليها أثر في الجملة من حيث هي كذلك.

(المقام الثاني) في الدليل على اعتبارها. ويدل عليه ـ مضافا إلى محكي الإجماع المستفيض المعتضد بدعوى الاتفاق عليه من بعض والضرورة من آخر ـ الروايات المستفيضة : منها ـ رواية حفص بن غياث المروية في الكتب الثلاثة ، وفيها : «أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل ، أيجوز لي أن

٣٠٤

أشهد أنه له؟ قال : نعم ، فقال الرجل : أشهد أنه في يده ، ولا أشهد أنه له فلعله لغيره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : أفيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال ـ عليه السلام ـ : فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثم تقول ـ بعد الملك ـ : هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال (ع) : ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (١).

ومنها ـ المروية ـ في الوسائل صحيحا وعن الاحتجاج مرسلا ـ ـ كما قيل ـ : عن مولانا الصادق عليه السلام في حديث فدك : «إن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين؟ قال : لا ، قال : فان كان في يد المسلمين شي‌ء يملكونه ادعيت أنا فيه : من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين قال : فاذا كان في يدي شي‌ء فادعى فيه المسلمون : تسألني البينة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبعده ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا عليّ كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم» (٢).

__________________

(١) راجع : الوسائل كتاب القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، حديث (٢) ولعل مقصوده من الكتب الثلاثة باستثناء الاستبصار بقرينة نقل الوسائل نفس الحديث عن الصدوق والشيخ والكليني ، والرواية عن الصادق (ع).

(٢) في الوسائل ، بنفس الباب حديث (٣) بسنده عن علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله (ع) .. وقال ـ بعد نقل الحديث ـ : ورواه الصدوق في (العلل) عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) مرسلا.

٣٠٥

ومنها ـ رواية مسعدة بن صدقة : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل ثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة : أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١).

ومنها ـ رواية حمزة بن حمران : «ادخل السوق فأريد ان اشتري جارية ، تقول : إني حرة ، فقال : اشترها ، الا ان يكون لها بينة» (٢).

ومنها ـ صحيحة العيص : «عن مملوك ادعى أنه حر ولم يأت ببينة على ذلك : أشتريه؟ قال نعم» (٣).

ومنها ـ موثقة يونس بن يعقوب : «في المرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة؟ قال (ع) : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة وما كان من متاع الرجل والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شي‌ء منه فهو له» (٤).

__________________

(١) في الوسائل ، كتاب التجارة باب ٤ من أبواب ما يتكسب به حديث (٤) : عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته يقول : كل شي‌ء ..

(٢) الوسائل ، كتاب التجارة باب ٥ من أبواب بيع الحيوان حديث ـ ٢ ـ بسنده عن حمزة بن حمران قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ادخل السوق ..

(٣) نفس المصدر والباب حديث (١) بسنده عن العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن مملوك.

(٤) في الوسائل ، كتاب الفرائض والمواريث ، باب ٨ من أبواب ميراث الأزواج حديث (٣) ، عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (ع) في امرأة تموت.

٣٠٦

(والمناقشة) فيها بضعف السند في بعض ، وعدم الدلالة أو إجمالها في جملتها ، لأن حديث (فدك) لا يدل على أزيد من كون المطالب بالبينة انما هو المدعي دون المدعى عليه ، وهو غير المدعى : من إفادة اليد الملكية ، ومثل ذلك في عدم الدلالة له ما تضمن جواز الشراء ممن يكون المال في يده الدال على صحة المعاملة معه بإلغاء ما يوجب المنع عنه من الاحتمالات المانعة عن الصحة من السرقة والحرية ونحوهما ، وهو أعم من إفادة الملك ، فإن الولي والوكيل والمأذون ـ مثلا ـ يجوز الشراء منهم مع عدم كونه ملكا لهم ، فجواز الشراء وصحة المعاملة أعم من الملكية والعام لا يدل على خصوص الخاص وتضمن خبر حفص لجواز الشهادة استنادا في تحملها إلى مؤدى الأصول والأمارات ، وهو ممنوع جدا ـ كما ستعرف ـ والاستدلال بخبر (مسعدة) مبني على كون جملة (هو لك) صفة للشي‌ء (وحلال) خبرا للمبتدإ ، وهو أحد الاحتمالين فيه ، مع انه يحتمل ـ ولعله الظاهر ـ كون لفظ (حلال) خبرا للضمير المنفصل ، وهو مع خبره خبر للمبتدإ الأول و (لك) متعلق (بحلال) والمعنى : كل شي‌ء هو حلال لك حتى تعرف .. إلخ وحينئذ فيكون من أدلة البراءة ، دون اعتبار اليد ، ولا أقل من إجمال الخبر بعد قيام الاحتمالين فيه.

(مدفوعة) أما : ضعف السند فمجبور بالعمل. وأما مطالبة البينة من غير ذي اليد في خبر (فدك) فلكونه مدعيا يدعى خلاف الظاهر على ذي اليد ، وليس الا لظهور كون ما في يده له ، وإلا لكان مدعيا أيضا وكان مورد التداعي دون المدعي والمدعى عليه. وأما ما تضمن جواز التصرف من البيع والشراء فظاهر بمعونة السياق في أن المستند هو كونه له وأما تضمن خبر حفص لما لعله لا نقول به ، فلا يخرجه عن الحجية في غيره وأما خبر مسعدة فالاحتمال الأول فيه هو الظاهر منه. ولو بمعونة الأمثلة فيه.

٣٠٧

هذا مع أن من مجموع الأخبار بعد ضم بعضها الى بعض ولو بمعونة سياقها يشرف الفقيه على القطع باعتبار اليد وإفادتها الملك.

ثم الظاهر اعتبارها من باب الظن النوعي الحاصل من غلبة كون الشي‌ء في اليد ملكا لمن هو في يده اعتبرها الشارع إتقانا للنظام وقياما للسوق كما صرح به في ذيل خبر حفص بن غياث ، بل المستفاد منه اعتبار كل إمارة يوجب عدم اعتبارها اختلال النظام ، بل الأدلة دلت على إمضاء الشارع لما عليه بناء العقلاء من أهل الأديان في جميع الأزمان قبل الإسلام وشرع الأحكام من الحلال والحرام : من اعتبار اليد وإفادتها الملك ،

هذا وهل يعتبر في التملك باليد كالحيازة للمباح قصد الملك ، أم يغني قصدها عن قصده ، فتكون الحيازة بنفسها سببا تاما للملك ، وان تجردت عن قصده ، بل ولو مع قصد العدم ، لان ترتب المسبب على السبب قهري وان كان السبب اختياريا ، ومثله سببية الإحياء للملك في (الموات) في اعتبار القصد معه ، وعدمه ، بل ومع قصد العدم؟ وجهان : بل قولان ولعل الأقوى العدم ، لما دل على سببية الأحياء والسبق للملك نحو «من أحيى أرضا ميتة فهي له» وقوله في النبوي المنجبر : «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به» (١) الشامل بإطلاقه ما لو تجرد عن قصد الملك ، بل ولو مع قصد عدمه ، مع احتمال ورود المطلقات مورد الغالب : من وقوع ذلك بقصد التملك ، فيبقى غيره على مقتضى الأصل : من عدم الملك. ولتحقيقه محل آخر.

نعم يستثني من تأثير اليد للملك في المباحات موات الأرضين منها فإنها إنما تملك بالاحياء ، لما دل على سببيته للملك. وأما تحجيرها فلا يفيد

__________________

(١) مضى تحقيق وتخريج هذين الحديثين النبويين وغيرهما في آخر الجزء الأول من (البلغة) ضمن البحث عن الأراضي الخراجية.

٣٠٨

إلا الأولوية بالتصرف ، وهذا مسلّم عندهم ، مع شمول حديث «من سبق» لها الدال على الأحقية المطلقة التي هي مساوقة للملكية ، ولذا يستدل به على الملك في الاحتشاش والاحتطاب ونحوهما ، وخروجها عنه بما دل على حصر سبب الملك فيها بالإحياء ينافي الاستدلال به ـ كما عن بعض ـ على الأولوية بالتصرف بالتحجير المتوقف على ارادة مطلق الأحقية من لفظ الأحق فيه ، دون الأحقية المطلقة ، ولعله لذا اعترف جدنا في (الرياض) بعدم العثور على نص يدل على افادة التحجير الأولوية بالتصرف ، حتى احتمل استناد الأصحاب في حكمهم بذلك الى فحوى ما دل عليها في السبق إلى مكان من المسجد أو السوق ونحوهما من النص. قال ـ في باب إحياء الموات ـ : «واعلم اني لم أقف على ما يتضمن أصل التحجير فضلا عما يدل على خصوص الأولوية به إلا اتفاقهم عليه ظاهرا ودعواه في كلام جمع منهم صريحا ولعلهم أخذوه من فحوى ما دل عليها في السبق إلى مكان من المسجد أو السوق من النص وغيره ولا بأس به» (١) انتهى.

وبالجملة ، التمسك بالحديث على الملك في غير (الموات) من المباحات الأصلية بالسبق إليها ، وعلى الأولوية بالتصرف فيها بالسبق والتحجير دون الملك ما لم يبلغ حد الأحياء ، لا يخلو من إشكال ظاهرا.

وتوضيحه : هو ان مفاد الجملة الشرطية علية المقدم للتالي علية تامة بحيث يترتب عليه التالي ترتبا فعليا ، ومقتضاه كون السبق علة للأحقية ، وحينئذ : فإن أريد بها الأحقية المطلقة ، أي الأحقية في جميع وجوه التصرفات والانتفاعات حتى المتوقفة على الملك ، كان ذلك مساوقا للملكية ومقتضاه حصول الملك بالتحجير لتحقق السبق به الموجب له بمقتضى العلية

__________________

(١) ذكر ذلك في أوائل كتاب احياء الموات ـ أثناء عرض المصنف لشروط الأحياء ، ومنها : أن لا يكون محجرا عليه من قبل.

٣٠٩

المستفادة منه : وان أريد بها مطلق الأحقية الصادقة على مجرد الأولوية دون الملكية ، لم يكن دالا على الملك بالسبق في المباحات الأصلية ، لأنه أعم ، والعام لا يدل على خصوص الخاص. وان أريد المعنيان منها معا كان من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى

ولكنه مدفوع بأن خروج الانتفاعات المتوقفة على الملك في خصوص الموات من المباحات ، وان سبق إليها بالتحجير ، عن إطلاق الأحقية المستفاد عمومها من حذف المتعلق بأدلة الإحياء الدالة على انحصار سبب الملك به لا ينافي ثبوت الأحقية في باقي التصرفات غير المتوقف على الملك بالإطلاق المقيد بغيره.

توضيح ذلك : أن الحكم المطلق إذا كان مترتبا على موضوع عام ، ثم ورد دليل مقيد له في خصوص جهة من جهات إطلاقه بالنسبة إلى فرد مخصوص من إفراد موضوعه العام ، كان ذلك الفرد من غير تلك الجهة مشمولا لإطلاق الحكم باقيا على اندراجه في عموم الموضوع يستدل به عليه ـ مثلا ـ لو قال : (إكرام العلماء واجب) الظاهر بمعونة حذف المتعلق في كونه واجبا في الحضر والسفر مثلا ، ثم ورد نهي عن إكرام زيد العالم في السفر ، فيبقى وجوب إكرام زيد في الحضر مدلولا عليه بإطلاق نفس الخبر ، وغيره من أفراد العلماء يجب إكرامه في حالتي السفر والحضر ، لسلامة جهات الإطلاق في حقهم عن التقييد واختصاصه به في خصوص السفر

ففي ما نحن فيه نقول : ان لفظ ما في الحديث يعم جميع الأعيان التي لم يسبق إليها مسلم ، سواء كانت مواتا أم غيرها من المباحات الأصلية مما ينقل ويتحول. والأحقية بالسبق إليها الشامل بعمومها المستفاد من حذف المتعلق لجميع التصرفات ووجوه الانتفاعات حتى المتوقفة على الملك حكم شرعي مرتب على ذلك الموضوع العام ثابت لمن سبق إليها بإيجاد علته من السبق

٣١٠

غير أنه لما ورد دليل خاص في خصوص الموات قد دل على حصر سبب الملك بالاحياء ، وجب خروج التصرفات المتوقفة على الملك عن إطلاق الأحقية فيها ، وبقي غيرها ، حتى ما يكون سببا للملك كنفس الأحياء ، لأنه غير متوقف على الملك ، داخلا تحت إطلاق الأحقية فيها أيضا ، وحينئذ فالأحقية المطلقة الملازمة للملكية والأحقية في الجملة الملازمة لمجرد الأولوية بالتصرف مقصودان من لفظ الأحق في الحديث المستعمل في مطلق الأحقية أي الطبيعة المهملة ، فيستفاد إطلاقه في غير الموات من الجهتين : من الإطلاق والإرسال ، وفي الموات من الجهة الأولى فقط من حمل المطلق على المقيد. ومن المحقق في محله : أن الطبيعة المهملة تتحد مع المراتب ـ أعلاها وأسفلها والمتوسطات بينهما ـ فهي حقيقة في جميع مراتبها ، كما عليه (سلطان العلماء) (١) فالمراد من الأحق في المباحات الأصلية غير الموات : هو المرتبة العالية بقرينة دليل الحكمة ، فأصل الأحقية مستفاد من اللفظ ، وخصوصية المرتبة من دليل الحكمة ، وفي الموات هو غير المرتبة العالية ، فأصل الأحقية مستفاد أيضا من اللفظ ، وأما خصوصية المرتبة النازلة فهي مستفادة من دليل المفيد ، فلا يلزم هناك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، بل لا يلزم ذلك حتى على القول باستفادة الإطلاق من اللفظ وكون التقييد مجازا ، فان اللفظ بعد التقييد مجاز في الباقي ، لا أنه مستعمل في أكثر من معنى.

__________________

(١) وهو السيد الحسين بن الميرزا رفيع الدين محمد بن محمود الحسيني الأصبهاني العالم المحقق الشهير ب (سلطان العلماء) لتفويض الشاه عباس الماضي الصفوي أمر الوزارة والصدارة إليه فكان خليفة السلطان وصهره على ابنته ، له تآليف وتعاليق قيمة على الروضة والمعالم والزبدة وغيرها في منتهى التحقيق والتدقيق توفي في أيام الشاه عباس الثاني في مازندران ونقل جثمانه الطاهر الى النجف الأشرف سنة ١٠٦٤ ه‍.

٣١١

وأما السبق إلى الأوقاف العامة فهو موجب للأحقية في التصرفات الموافقة لجعل الوقف أو الغير المنافية له. وأما المنافيات له فغير موجب لها لعدم قابلية دخولها في الملك وعدم تسويغ ما ينافي الوقف من التصرف فان الوقوف على حسب ما يقفها أهلها ، فهو أيضا خارج بالدليل الخاص عن اقتضاء السبق للأحقية في جميع التصرفات المنافية للوقف.

فتلخص مما ذكرنا : أن السبق الى ما لم يسبقه مسلم ما يكون هو وغيره لو لا السبق شرع سواء موجب للأحقية في جميع التصرفات ووجوه الانتفاعات في غير الموات والأوقاف العامة من المباحات الملازمة للملكية ولمجرد الأولوية دون الملكية فيهما بمعونة دليل الحكمة في الأول ، والمفيد في الثاني.

(المقام الثالث)

في مقدار عموم (قاعدة اليد) وبيان جملة من أحكامها. وتمام الكلام فيه يتم في طي أمور.

(الأول)

هل تجري (قاعدة اليد) في غير الأموال من الأعراض والنسب ، بمعنى ثبوتهما باليد ، أم هي مختصة بالأموال. وعليه ، فهل هي تختص بالأعيان منها أم تعم المنافع أيضا ، فنقول : القدر المستفاد من أدلة اعتبارها من الأخبار المتقدمة : هو اعتبارها في الأموال ، لعدم عموم فيها يشمل غيرها إلا إطلاق قوله (ع) في ذيل موثقة ابن يعقوب : «ومن استولى على شي‌ء منه فهو له» وهو حسن لو لا تقييد شي‌ء فيه بالضمير المجرور ب (من)

٣١٢

العائد إلى المتاع. وحيث لا دليل على اعتبارها في غير مورد الأخبار ، فمقتضى الأصل عدمه.

ومنه يظهر الوجه في عدم ثبوت الأعراض باليد ، وان حكي الإجماع عليه فيما لو تنازع رجلان في زوجية امرأة هي تحت أحدهما ، كان القول قول من هي تحته. فان تم فللإجماع ولظهور حال المسلم ، وحمل أفعاله على الصحيح حتى يثبت من يدعى فسادها ، لا لاعتبار اليد عليها.

اللهم إلا أن يستدل عليه : بمناط ما هو مذكور من الأمثلة في خبر (مسعدة) المتقدم : «أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك» بناء على عدم لفرق ـ في إلغاء ما يخالف اليد ـ بين مجرد احتماله أو وجود مدع به ، لكن على أحد الاحتمالين المتقدمين في تفسير الخبر : من جعل جملة (هو لك) صفة لشي‌ء و (حلال) خبرا ليكون حينئذ دليلا على على اعتبار اليد. وبأن البضع يملك ، واليد أمارة مفيدة للملك ، ملك عين كان أو ملك الانتفاع ، فتأمل ، فضلا عن ثبوت النسب بها ، بل لعل عدمه من المتفق عليه عندهم ، كما يظهر من كلماتهم في مسألة : ما لو تنازع اثنان على بنوة صبي في يد أحدهما ، حيث حكموا بمساواتهما في الدعوى وأنه من باب التداعي دون المدعي والمدعى عليه. ولولاه لكان ذو اليد مدعى عليه ومنازعة مدعيا ، نعم في (القواعد) ما يعطي ذلك على إشكال حيث قال : «ولو تداعيا صبيا. وهو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصة على إشكال» (١) ويظهر من ولده (الفخر) في شرحه : ان من الأصحاب من يقول بذلك حيث قال : «اليد : إما أن تكون عن التقاط ، أولا ، والأول لا تقدم

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب القضاء من (قواعد العلامة) الفصل الرابع في النسب.

٣١٣

والثاني : إما أن يتقدم استلحاق صاحب اليد فيقدم ، أو لا يتقدم ، فهل يقدم؟ قيل : نعم ، لأنها أمارة دالة عليه ، ولأنه مدعى عليه وغيره مدع ، وقيل : لا ، لان اليد لا تأثير لها في النسب ولا في ترجيحه ، والأصح الثاني» (١) انتهى.

قلت : ولعل التقديم ـ لو قيل به ـ فلترجيح أحد الإقرارين باليد بعد تساويهما في الإقرار ، لا لتقديم قول ذي اليد من حيث هو ذو اليد على من يدعى عليه.

نعم يلحق الصغير بمن ادعى بنوته إذا كان أبا أو ولو كان أما حيث يمكن اللحوق به ولا منازع له عليه ، الا أن ذلك من ثبوت النسب بالإقرار المتضمن له دعواه بها مع ورود الأخبار المستفيضة به ، مضافا إلى إمكان كونه مندرجا تحت قاعدة المدعي بلا معارض ، ان قلنا بها ، فلا دخل له بثبوت النسب باليد.

ثم على تقدير اختصاص (قاعدة اليد) بالأموال ، فهل هي تختص بالأعيان منها ، أم تعم المنافع أيضا؟ صرح بالأول منهما النراقي في (مستنده) حيث قال ـ بعد أن ذكر اختصاص أخبار الباب بخصوص الأعيان ما نصه ـ : «يمكن دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان ، فإنها المتبادر عرفا من لفظ ما في اليد ، بل الاستيلاء ، وصدقه على المنافع غير معلوم ، بل نقول : ان الكون في اليد والاستيلاء انما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة ، وأما الأمور التدريجية الوجود الغير القارة ، كالمنافع ، فلو سلم صدق اليد والاستيلاء فيها ، فإنما هو فيما تحقق ومضي ، لا في المنافع

__________________

(١) راجع : (إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد) لفخر المحققين في نفس الباب.

٣١٤

الآتية التي هي المراد هنا» (١) انتهى.

وأنت خبير بما فيه ـ بعد صدق اليد عرفا على المنافع وان قبضها حاصل بقبض العين ، ولذا جاز للمؤجر مطالبة الأجرة من المستأجر بمجرد قبضه العين المستأجرة مع أن ما بإزاء الأجرة إنما هو المنفعة ، وليس له المطالبة إلا بعد قبضها الحاصل بقبض العين ، لان اليد على العين يد على منافعها ، والا لكان من المطالبة قبل القبض والتسليم ، الذي قد عرفت جواز الامتناع عنه قبله في (قاعدة تلف المبيع قبل قبضه) بما لا مزيد عليه» (٢).

ومن هذا الباب : عدم ضمان منفعة الحر ، إذ لا يد عليه حتى تصدق اليد على منافعه ، ولا كذلك المملوك فان منافعه مضمونة لصدق اليد عليها باليد عليه ، ولا دخل للاستيفاء في صدق اليد على المنفعة بقبض العين حتى يفصل بين المستوفاة منها وغيرها ، أو يفرق فيها بين ما مضى وما يأتي.

نعم ، من استولى على عين يدعي استحقاق منفعتها بالخصوص ، وأنكره مالك العين ، لم يقبل قول المدعي بملك المنفعة بمجرد اليد عليها باليد على العين مع إنكار المالك ، لأن المنفعة تابعة في الملك للعين ، فدعوى المدعي

__________________

(١) مستند الشيعة في أحكام الشريعة للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي الكاشاني المتولد سنة ١١٨٥ والمتوفى سنة ١٢٢٥ ه‍ طبع في إيران بمجلدين ضخمين طبعة حجرية. راجع هذه العبارة في المجلد الثاني منه كتاب القضاء والشهادات ، السادس من مواضيع الكلام في اليد ضمن الفصل الخامس في نبذ من أحكام الدعاوي في الأعيان وأول العبارة هكذا : «هل يختص اقتضاء اليد لأصالة الملكية أو الاختصاص بالأعيان ، أم يجري في المنافع أيضا ـ الى قوله ـ إلا أنه يمكن ..».

(٢) راجع الرسالة الثالثة من محتويات الجزء الأول من (البلغة).

٣١٥

استحقاقها خاصة متضمنة لدعوى نقلها منه اليه ، فلا تقبل إلا بحجة شرعية فلا تأثير لليد عليها ، كما لا تأثير لليد اللاحقة بعد اعترافه باليد السابقة ـ حسبما ستعرف ـ وانما يقبل قوله بالاستحقاق حيث لا يعلم إنكار المالك له ، كما يقدم قول المستولي على غيره لو ادعى الاستحقاق أيضا لاتحاد جهة الاختصاص بهما معا ، مع كون أحدهما ذا اليد ، فالقول قوله حتى تقوم بينة على خلافه ، فلو كانت العين بيد شخص يدعي استيجارها من المالك ولم يعلم إنكار المالك لدعواه وادعى غيره استحقاق المنفعة أيضا بإجارة أو غيرها ، كان القول في استحقاق المنفعة قول من هي في يده ، ويطالب المدعي بالبينة.

الا أن ذلك يشكل على (النراقي) مع اعترافه به ، بناء على مختاره : من عدم صدق اليد على المنافع واختصاص اعتبارها بالأعيان ، إذ لا بد للمستولي بالفرض على المنفعة ، وما هو ذو يد عليه معترف به لغيره ، فما يدعيه من المنفعة لا يد له عليه ، وماله يد عليه من العين لا يدعيه.

وعليه فيكون من التداعي دون المدعي والمدعى عليه قال في (المستند) : «فلو ادعى أحد استئجار شي‌ء في يد غيره مدعيا بأنه استأجره ، يطلب البينة من المدعي لأصالة الاختصاص بالمستولي فإن جهة الاختصاص بينهما واحدة بخلاف ما لو ادعى المالك عدم الإجارة لأن ملكيته مختصة به والمستأجر يدعي الاختصاص الاستيجاري ، ولا دليل عليه» (١).

__________________

(١) راجع ذلك في المصدر الآنف الذكر من المستند بعنوان : (السابع) ما ذكر من أن الاستيلاء يدل على أصالة الاختصاص للمستولي إنما هو إذا لم يكن هناك مدع ثبت له اختصاص آخر أيضا ، فلو كان كذلك لا يفيد الاستيلاء شيئا ـ إلى قوله ـ : فلو أن.

٣١٦

ومثله في (عوائده) فراجع (١).

(الثاني)

هل يختص اعتبار اليد وكونها إمارة بالنسبة الى غير صاحبها أو يعم حتى بالنسبة إليه أيضا لو شك في كون ما في يده له ، قولان : أقواهما الثاني ـ لا لما قيل : من الاستدلال عليه ـ أولا ـ بخبر مسعدة المتقدم ، بناء على كونه دليلا على اعتبار اليد دون البراءة بجعل (هو لك) فيه صفة (لشي‌ء) ومورده بقرينة الأمثلة فيه : كون ذي اليد محتملا لخلاف ما تقتضيه يده من الملكية أو الاختصاص وشاكا فيه : الأمر فيه بإلغاء ذلك الاحتمال وعدم ترتب الأثر على شكه ـ وثانيا ـ بعموم قوله في ذيل موثقة يونس بن يعقوب (ومن استولى على شي‌ء منه فهو له) الشامل بإطلاقه لما كان المستولي شاكا أيضا ـ لأن الأول ـ مع قوة احتمال كونه دليلا على البراءة بجعل (حلال) خبرا للضمير المنفصل كما تقدم فيكون دليلا للبراءة دون قاعدة اليد ـ : أن الشك فيه ـ لو سلم ـ انما هو للشك في تملك من انتقل منه إليه المعلوم اعتبار اليد فيه ، مع أن بعض أمثلته لا دخل لليد فيه ، كالزوجة المحتمل كونها (رضيعتك) فان الموجب لإلغاء احتمال ذلك فيه انما هو مخالفته للأصل دون قاعدة اليد.

وأما الثاني ، فلظهور اختصاص قوله في الموثقة (من استولى على شي‌ء) في أن كلا من الرجل والمرأة إذا مات وكان مستوليا على شي‌ء من متاع البيت حكم له به ، ومع الاشتراك في الاستيلاء يحكم بالاشتراك

__________________

(١) عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام. نفس العبارة ذكرها في أخريات القاعدة في بيان أن مقتضى اليد الملكية.

٣١٧

وأين ذلك من كون المستولي بنفسه شاكا في ملكه لما في يده.

بل لصحيحة جميل بن صالح عن الصادق عليه السلام : «رجل وجد في بيته دينارا؟ قال : يدخل منزله غيره؟ قلت : نعم كثير ، قال : هذه لقطة ، قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : فيدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا ، قال : فهو له» (١) حيث حكم بأن ما في الصندوق له مع كونه شاكا فيه بالفرض ، وليس إلا لكون اليد معتبرة حتى بالنسبة إلى صاحبها ، ولعموم التعليل في ذيل خبر (حفص) المتقدم «ولو لم يجز ذلك ما قام للمسلمين سوق» بعد فرض كون السوق مثالا ، وان المقصود لزوم اختلال النظام لو لا اعتبار اليد ، والظن النوعي المستفاد من غلبة كون ما في اليد ملكا لصاحبها الشامل الذي اليد أيضا ، لوجود المناط فيه بعد أن كان الغالب عدم تذكره لسبب ملكية ما هو تحت يده من متاع البيت وأثاثه وأمتعته الموضوعة للبيع في دكانه من الأقمشة وغيرها.

وان نوقش في الرواية بمنافاة ذيلها ـ الحاكم بملكية ما في الصندوق لصاحبه الدال على اعتبار اليد ولو كان شاكا صاحبها ـ لصدرها الحاكم بكون ما وجده في دار لقطة إذا دخلها غيره أيضا ، الدال على عدم اعتبار اليد مع كون صاحبها شاكا ، إذ المفروض أن الدار وما فيها لم تخرج بدخول الغير عن كونها تحت يد مالكها وكونه ذا يد عليها بما فيها ، الا ان المناقشة ضعيفة ، لمنع الغلبة المفيدة للظّن ـ ولو نوعا ـ بكون ما وجده في بيته مع دخول الغير فيه كثيرا ملكا له إذا كان مما يمكن سقوطه من الداخلين فيه كالدينار ونحوه ، ضرورة أن ملك البيت من حيث هو ليس سببا لتملك ما فيه ، وهذا بخلاف ما يوجد فيه من الأمتعة

__________________

(١) الوسائل ، كتاب اللقطة ، باب ٣ من أبوابها ، حديث (١).

٣١٨

وغيرها مما يبعد وضعه فيه من الداخلين أو سقوطه منهم ، فهو له وان شك فيه لغلبة عدم تذكر المالك مفصلا لما يملكه مما هو موجود في بيته أو دكاته ونحوهما.

وان أبيت عن ذلك ، فنقول : ان مقتضى اليد اعتبارها مطلقا في كل ما يوجد في ملكه من إفادتها الملكية له ، خرج من ذلك مورد النص فيبقى الباقي داخلا في العموم ، وكونه من التخصص لا من التخصيص قد عرفت ما فيه.

نعم قد يقال : ان الصحيحة تعارضها موثقة إسحاق بن عمار : «عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة : كيف يصنع؟ قال : يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها ، قلت : فان لم يعرفوها؟ قال : يتصدق بها» (١) حيث قيد الدفع إليهم بالمعرفة الموجب لعدمه مع عدمها الشامل لصورة الشك أيضا ـ أولا ـ مع تصريحه ـ ثانيا : بالتصدق مع عدم المعرفة الشامل إطلاقه للشك أيضا ـ كما عرفت مع أن الأمر بالسؤال لا يكاد يتجه مع كون أهل المنزل ذوي أيد على المنزل وما فيه ظاهرا أو باطنا : بل اللازم دفعه إليهم من دون سؤال منهم ، فإن أنكروه تصدق به.

الا انها منزلة ـ لكون المال فيه مدفونا بالفرض على الكنز الذي لو وجده في الخربة كان لواجده ، وفي العمار عرّف به أهله أولا ، وليست للعمارة من حيث هي مدخلية الا من حيث احتمال كونه لأهلها

__________________

(١) المصدر الآنف الذكر باب ٥ من أبواب اللقطة ، حديث (٣) بسنده هكذا : «عن إسحاق بن عمار قال : سألت أبا إبراهيم (ع) عن رجل ..».

٣١٩

المفقود في الخربة.

هذا وما أبعد ما بين القول بعدم اعتبار اليد في حق صاحبها لو كان شاكا ، وبين القول بكونه ملكه ، وان علم عدمه ، وأنه مما إعطاء الله ورزق ساقه اليه ـ كما عليه جدنا في الرياض ـ لإطلاق الصحيحة المتقدمة في الصندوق» بناء على شموله لما لو كان عالما بالعدم المعلوم انصرافه إلى غيره» (١).

هذا ، وهل يشترط في اعتبارها انضمام كونه مدعيا له ، أم يكفي فيه عدم نفيه عن نفسه فيحكم به له ، وان كان ساكتا عن دعواه ذلك؟ وجهان : والأقوى هو الثاني ، لعموم صدر خبر حفص ـ المتقدم ـ «أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل؟ أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال : نعم» الناشي من ترك الاستفصال عن دعواه الملكية وعدمها ، وذيل موثقة ابن يعقوب : «ومن استولى على شي‌ء منه فهو له» والإجماع محكي عليه أيضا ، بل لعله من الضروريات المسلمة عندهم ، ولذا لم يشك أحد في ملكية ما في يد الغائب له ، وما في يد الميت كذلك ، فينتقل منه الى وارثه ما لم يعلم خلافه ، وفي جواز الانتفاع بما في يد أحد مع اذنه من غير إحراز منه لدعواه ملكيته ، وليس إلا لكفاية اليد للحكم بالملكية وان لم ينضم إليها دعواها.

(الثالث)

لا فرق في إفادة اليد الملك بين اليد العادية وغيرها فيما لم تكن

__________________

(١) راجع ذلك منه في كتاب اللقطة ، الثانية من المسائل الثلاث ما وجده في داره أو في صندوقه المختصين بالتصرف فيهما فهو له ..

٣٢٠